المرض العضوي في المستوى البيولوجي واضح وإن كان لايخلو من تعقيداته الخاصة، وفلسفته العميقة، وحكمته الملفتة للنظر، ولكن الشيء الذي لاننتبه له ولايلفت نظرنا هو طبيعة أمراض من نوع آخر في البعد النفسي الاجتماعي أو حتى الحضاري.

فإذا ذهبنا إلى تعريف المرض على أنه اختلال وظيفة العضو، فإن هذا يمكن حمله وتطبيقه في مستويات أخرى وشرائح متباينة، فالمرض هو قدر الوجود، فالنبات يمرض، والحشرة تعجز، والحيوان يهزل، والإنسان يذوي، والمجتمع يتراجع، والدول تكبو، والحضارات تنهار.

وهذا قانون وجودي انتبهت له الفيزياء، وأعطته اسم (القانون الثاني في التيرمو دينامك الحراري) ومكتشفه عالم فرنسي هو (سادي كارنوت) عام 1829م، وذكره الروسي (ليونارد راستريغين) في كتابه (مملكة الفوضى ص 24 دار الطليعة ترجمة عبد الهادي عبد الرحمن) على النحو التالي:


" إن كل نظام مغلق؛ أي معزول كليا عن أي نظام آخر، يميل إلى أن يصبح في حالته الأكثر احتمالا، وهي الفوضى الكاملة". والإنتروبيا هي درجة عدم الانتظام هذه.

ويمضي راستريغين في تطبيق كلامه هذا على الشكل التالي (بتصرف):


" وهكذا وطبقا للقانون الثاني تصبح كل الأنظمة المغلقة غير منتظمة تدريجيا فتتحلل وتموت، فهي في العمل الهندسي التآكل، وفي البيولوجيا الشيخوخة، وفي الكيمياء التفكك والتحلل، وفي المجتمع الفساد والذوبان، وفي التاريخ الانحطاط وتفسخ الحضارات، وهي في الدول التفاني، وهي في الجسم الموت الذي نفر منه؟".

وليست الكائنات الحية ومنها الأمراض استثناء من القانون، فأي كائن هو محرك عالي التعقيد، وهذه الحقائق تجعل من القانون الثاني قانونا أكاديميا وتبدد التوتر العاطفي المتعلق بالموت الحراري للكون، ونحن منه؟

وإذا كان المرض البيولوجي سهل الكشف فإن المرض النفسي ليس بهذه السهولة، فالمصاب بقولنج كلوي يُهرع الى الطبيب ويسلم ذراعه لحقنة المُسَكِّن، ولكن هل ينتبه الإنسان إلى أنه مصاب بنزلة (حسد)؟ أو احتقان (كراهية)؟ أو قولنج (كذب)؟ أو التهاب (حقد) حاد؟ أو سرطان غرور؟!

الذي يحصل في العادة هو العكس، فأكل لحم الآخرين يستلذ به، وهي مفارقة عجيبة في الجدل الإنساني، وإمكانية صوم الإنسان عن ذلك الغذاء الفاسد لمدة 24 ساعة تتطلب ضبط نفس ليس بالعادي؟!

ويقول فيلسوف لو ظهر للسطح ما يقول الناس في بعضهم بعضا ما بقي أربعة أصدقاء على وجه الأرض؟ وهي مفارقة (تناقض) المرض السيكولوجي !!

المريض بالتهاب الزائدة الدودية الحاد يضع يده على بطنه ويطير إلى المستشفى، والمصاب بنوبة اختناق حادة من الربو يركض الى الإسعاف لينشق برذاذ البوتالين وجرعة الأمينوفيلين والكورتيزون، ولكن المصاب بنوبة حسد أو حقد، هل يحس ويدرك، أن وضعه ليس على مايرام ويحتاج لعلاج؟!

هل يمكن للمصاب بجمود عقلي وتحنط في فهم العالم وإضافات المعرفة الإنسانية أن ينتبه إلى أنه أصبح خارج التاريخ والجغرافيا؟ وأن أجهزنه العقلية بحاجة إلى (نفض) من الغبار؟

الجميل في المرض النفسي، أنه لايحتاج عادة إلى قاعات جراحية، مزودة بالمشارط والملاقط، كل ما يحتاج إليه كنبة مريحة وتحليل نفسي طويل هادئ؟ كما لايحتاج إلى قسم إسعاف مزود بأجهزة الضغط، وقياس الحرارة، وإبر الحقن المتنوعة، كذلك لايتطلب أجهزة رهيبة للتشخيص، من التصوير الطبقي المحوري أو الرنين المغناطيسي، أو انبعاث أشعة البوزيترون.

لحسن الحظ أن طبيعة النفس تحتاج إلى مداخلات من نوع مختلف، وهي نفسية داخلية بالدرجة الأولى، أهمها إحياء الجدل الداخلي، وابتعاث آلية النقد الذاتي، التي تفتح الطريق على وعي الذات، الذي هو أرفع أنواع الوعي؛ فالوصول لاحقاً إلى الاعتراف بالخطأ؛ فالتوبة؛ فتصحيح المسار.

والتوبة وتصحيح المسار هي الولادة الجديدة، لأن كثيرا من الناس يظنون أنهم أحياء وهم أموات، وهذا الذي أشار إليه القرآن بالولادة الجديدة، (أومن كان ميتاً فأحييناه) وكل الناس إلا أندر النادر يمشون باتجاه متحارجة عجيبة؛ هي انتفاخ الجيب، وضمور العقل، ولنتصور جسدنا مثل الغوريلا الذي نما جسمه إلى 200 كليوجرام وهبط دماغه إلى ثلث حجم دماغنا؟!