الدنيا كلها.
ء النصر المرعب والذي لا حد له، في ضوء اللهب الرقيق الذي يبدو كما لو أنه آتٍ من وجهها كالنور، كان هو خائر القوى. ومع ذلك لم يكن عازماً على أن يقع في هواها. لم ينوِ أن يغرم بها. ثمة شيء عنيد في داخله رفض الإفصاح عن نفسه.
"أنتَ مغرم بي"، كررت هي في تمتمة وقاحة عميقة ومفرطة الحماسة.
"أنت مغرم بي.".
كانت يداها تجرانه، تجرانه إلى الأسفل نحوها، كان خائفاً، لا بل يشعر هو بقليلٍ من الرعب. ذلك أنه في الواقع لم يكن عازماً على الوقوع في حبها. مع ذلك كانت يداها تسحبانه إليها. مدّ ذراعه بسرعة كي يثبت نفسه، وأمسك كتفها العارية، بدا كما لو أن لهباُ يحرق الكف التي أمسكت كتفها الناعمة. ليس له أية نية في أن يغرم بها: كانت إرادته الكلية ضد استسلامه. كان ذلك شيئاً مروِّعاً. ومع ذلك مذهلة كانت لمسة كتفيها، جميلاً كان إشراق وجهها. هل يحتمل أن تكون قد جُنت؟ كان يرهب الوقوع في شباك هواها. ومع ذلك شيء مابداخله أورثه الألم أيضاً.
كان يحوّل بصره إلى الباب، بعيداً عنها. بيد أن يده بقيت على كتفها، وفجأةً أمستْ هي في غاية الهدوء. خفض بصره إليها. صارت عيناها الآن مفتوحتين على مداهما بسبب الخوف، والشك، وزال الألق من وجهها، رجع إليه ظل الكآبة الشنيعة. لم يكن في مقدوره أن يحتمل لمسة سؤال عينيها له، ونظرة الموت وراء السؤال.
بأنينٍ باطني أفشى مابداخله، وجعل فؤاده يستسلم لها، لاحت على محياه بسمة لطيفة مفاجئة. أما عيناها، اللتان لم تفارقا وجهه، شيئاً فشيئاً أغرورقتا بالدموع. تأمل الماء الغريب يترقرق في عينيها، كما لو أن نافورة بطيئة انبجست هناك، وبدا كما لو أن فؤاده قد اشتعل وذاب في صدره.
لم يعد يحتمل النظر إليها بعد الآن. هوى على ركبتيه وقبض على رأسها بيديه وضمّ وجهها إلى حنجرته. كانت جد ساكنة. فؤاده، الذي بدا كما لو أنه قد تفطر، كان يشتعل بنوعٍ من الكرب في صدره. وأحس بعبراتها الحارة، البطيئة تبلل حنجرته. لكنه لم يكن قادراً على الحركة.
أحس أن دموعها الحارة تبلل عنقه وتجاويف عنقه، وظل بلا حراك، معلقاً بأحد خيوط أبديات الإنسان. الآن فقد صار أمراً لا مفر منه أن يضم وجهها إليه؛ لن يدعها تفلت منه ثانية، لن يدع رأسها يفلت من مسكة يده. ودّ أن يبقى أبداً على هذه الحال، وقلبه يسبب له ألماً كان بمثابة حياة بالنسبة له.
من غير أن يعلم، كان يخفض بصره على شعرها البليل، الناعم، البني اللون. ثم، فجأةً، شمَّ الرائحة الكريهة لذلك الماء الراكد، وفي اللحظة ذاتها انسحبت مبتعدةً عنه وتطلعتْ إليه. كانت عيناها كئيبتين ولا يسبر غورهما. كان يخشى تينك العينين، وشرع في تقبيلها، من غير أن يعرف ماكان يفعله. تمنى أن لا يرى تلك النظرات الرهيبة الكئيبة التي لا يسبر غورها في تينك المقلتين.
عندما أدارت وجهها إليه ثانيةً، كان يشع بحمرة خفيفة رقيقة، ومن جديد بزغ ذلك البريق الرهيب للفرح في عينيها، الذي أرعبه حقاً، والذي رغم ذلك ود أن يشاهده، لأنه كان يخشى نظرة الشك أكثر منه.
"أتحبني؟".. سألته، متلعثمة بعض الشيء...
"نعم". هذه الكلمة كلفته مجهوداً موجعاً، ليس لأنها غير حقيقية، إنما لأنها كانت حقيقة جديدة جداً. هذا القول مزّق ثانيةً فؤاده الممزق حديثاً، وبالكاد تمنى هو أن يكون قوله حقيقياً، حتى الآن.
رفعت وجهها إليه، وانحنى فيرجسون للأمام، وقبلها برقة، قبلةً كانت بمثابة عربون أبدي. وحينما قبلها توتر قلبه ثانيةً في صدره. لم يكن عازماً على التوّله بها. لكن الآن انتهى كل شيء. فقد عبر الخليج متجهاً إليها، وكل ماتركه وراءه صار ذابلاً وعقيماً.
بعد القبلة، عيناها درت ثانيةً دموعاً مدرارة. كانت جالسة بلا حراك، بعيدة عنه، ووجهها مخفض ومشاح جانباً، ويداها مطويتان في حجرها. انهمرت العبرات ببطء شديد. خيّم صمت تام، هو أيضاً، لبث جالساً بلاحراك ملتزماً الصمت على دثار الموقد. الألم الغريب لقلبه الذي تفطر بدا كما لو أنه شرع يتلفه. أكان يلزمه أن يعشقها؟ أهذا عشق! أكان يجب أن يُشرّط بهذه الطريقة! -هِم، طبيب!- كم سيسخر منه الناس جميعاً لو أنهم عرفوا!
-كانت فكرة معرفة الآخرين بغرامه هذا تؤلمه ألماً شديداً.
في خلال الألم الصريح واللافت للنظر لتلك الفكرة نظر إليها من جديد.
كانت جالسة هناك مخفضة الرأس مستغرقةً في التفكير، رأى دمعةً تهمي، فاشتعل اللهب في فؤاده.
"لمَ تبكين؟".. سألها بنبرة مختلفة.
رفعتْ بصرها إليه، ووراء غلالة الدمع جلب وعيها بوضعها لأول مرة نظرةً قاتمةً من الخجل إلى عينيها.
"أنا لا أبكي ، حقيقةً"، قالت، وهي تتأمله نصف خائفة.
مد يده، وبرفق قبض على ذراعها العارية.
"أنا أحبكِ، أنا أحبكِ!" قال بصوتٍ ناعم، خفيض ومرتعش، لا يمت إليه بصلة.
انكمشت، وطأطأت رأسها. مسكة يده الرقيقة، النافذة على ذراعها ضايقتها، رفعتْ بصرها إليه.
"أريد الذهاب"، قالت:"أريد أن أذهب وآتيك ببعض قطع الملابس الجافة.".
"لِمَ؟ أنا على مايرام.". قال.
"لكنني أنوي الرحيل.". قالت هي: ثم أردفت: "وأريدكَ أن تبدل ثيابكَ.".
حررّ ذراعها، ولفتْ هي نفسها ببطانية، متطلعةً إليه بشيء من الخوف. لكنها لم تنهض.
وبعد ثانية، نهضتْ بعصبية، لفتْ جسدها كله بالبطانية. راقبها في تشوش واضطراب، بينما كانت هي تسعى لتحرير نفسها ولف نفسها بحيث يمكنها أن تسير راقبها من غير شفقة، وكانت هي تدرك ذلك، وبينما هي تمشي، كانت البطانية تتجرجر على الأرض، ولما شاهد هو بنظرةٍ خاطفةٍ قدميها وساقها البيضاء، حاول أن يتذكر مفاتنها عندما لفها بالبطانية، لكنه وقتها لم يكنْ يرغب بالتذكر، لأنها لم تكن حينذاك تعني شيئاً بالنسبة له، وإن طبيعته منعته من تذكرها كما هو الحال عندما كانت لا تعني شيئاً بالنسبة له.
أرعبته ضوضاء متمتمة، مكتومة آتية من داخل المنزل المظلم، ثم سمع صوتها:
"توجد ثياب." نهض ومضى إلى أسفل السلم، ولملم قطع الملابس التي رمتها له. ثم عاد إلى النار، كي يدلك نفسه، ويرتدي ثيابه، كشر مشمئزاً من مظهره عندما فرغ من لبس الثياب.
كانت النار قد بدأت تخمد، لذا وضع شيئاً من الفحم. أضحى المنزل الآن شديد العتمة، عدا ضوء مصباح الشارع الذي كان يلمع ضعيفاً وراء أشجار البهشية. أشعل مصباح الغاز بعيدان ثقاب وجدها على رف الموقد. ثم أفرغ جيوب ثيابه الخاصة، ورمى ملابسه المبللة بهيئة كومة في حجرة غسل الأطباق والآنية. بعدها جمع ثيابها المشبعة بالماء، برفق، ووضعها بهيئة كومة منفصلة على سطح الوعاء النحاسي في حجرة الأطباق والآنية.
كان الوقت في الساعة الجدارية يشير إلى السادسة. ساعته اليدوية توقفت عن العمل. ينبغي له العودة إلى عيادته الجراحية. انتظر، لكنها لم تنزل بعد، لذا مضى هو إلى أسفل السلم، ونادى: "ينبغي لي الذهاب.".
وعلى الفور سمعها تنزل درجات السلم. لبستْ أجمل ثيابها، كان فستاناً من نسيج الفوال الرقيق الأسود، وكان شعرها مسرّحاً ومرتباً، لكنه مايزال بليلاً. نظرت إليه- ورغماً عنها ابتسمتْ.
"لا أحبكَ بتلك الملابس." قالت هي.
"هل بدوتُ مثيراً للسخرية؟". أجابها.
كل منهما كان خجلاً من الآخر.
"سأعد لك قليلاً من الشاي". قالت.
"لا، يتعين عليّ الذهاب.".
"هل ينبغي عليك الذهاب فعلاً؟" وتأملته ثانيةً بعينيها المفتوحتين على وسعهما، والمتوترتين، والمرتابتين، ومن جديد، من خلال الألم الساكن في قلبه عرف مقدار حبه لها. مضى وقبلّها برقة، وبعاطفة، قبلّها قبلة القلب الموجوع.
"وشعري يعبق برائحة جد فظيعة". غمغمت هي بحيرة وارتباك. "وأنا الآن في منتهى الكآبة، أنا في منتهى الكآبة! أوه لا، أنا في غاية الكآبة.".
وانخرطتْ في بكاء يفطر القلب. "أنتَ ترغب بالوقوع في هواي، أنا رهيبة!".
"لا تكوني حمقاء، لا تكوني حمقاء"، قال هو، ساعياً إلى تهدئتها. قبلّها وحملها بين ذراعيه."أنا أريدكِ، أريد الزواج منكِ، سوف نتزوج، على عجل، على عجل -غداً إذا تمكنتُ من ذلك.".
لكنها نحبتْ نحيباً مُراً، وصاحت:
"أحس بالكآبة. أحس بالكآبة، أشعر أنني رهيبة بالنسبة لك.".
"كلا، أنا أريدكِ". هذا هو كلِ ما أجاب به، بتهور، بتلك النبرة الفظيعة التي أخافتها أكثر تقريباً من رعبها الخاص من أن لا يكون راغباً فيها.