وسعه أن يتغلغل عميقاً في الحياة الخاصة للرجال والنساء، هؤلاء جميعاً كانوا عاطفيين جداً، خشني الطباع، وعاجزين عن التعبير عن آرائهم. كان متذمراً، قال هو مرةً أنه كان يمقت الحجر الجهنمي. لكن والحق... يقال.. أثاره ذلك، كان الاتصال والتماس مع الناس الأفظاظ، شديدي الإحساس، محفزاً قوياً يمس أعصابه مساً أسفل أولدميدو "المرج القديم"، في غور الحقول الأخضر، القليل العمق، المخضل، ثمة بركة ماء عميقة، مربعة الشكل. مسح الطبيب المنظر الطبيعي بنظرة خاطفة ميز فيها هيئةً متشحة بالسواد تجتاز بوابة الحقل، ميممةً شطر البركة. أنعم النظر من جديد، من الجائز أن تكون تلك مابيل بيرفين، فجأةً أمسى مباشراً.
وعيه يقظاً وحيوياً.
لماذا تنزل هي إلى البركة؟ توقف في مسيره على المنحدر الذي في الأعلى، وجعل يحدق. كان في مقدوره أن يتأكد من أن ثمة هيكلاً أسود صغيراً يتحرك في غور النهار المعطل. بدا أنه شاهدها وسط هذه العتمة، وأنه كالمستبصر، رآها بالأحرى بعين العقل أكثر مما رآها بالبصر الاعتيادي. مع ذلك بوسعه أن يشاهدها بجزم كافٍ، بينما كان ينعم النظر بعينين يقظتين. شعر هو إذا ما نظر بعيداً، في الغسق الكثيف، والبشع، بأنه سيفقدها بكل مافي الكلمة من معنى.
تابعها بدقة متناهية بينما كانت تتحرك، بصورة مباشرة وبعزم، كما لو كانت شيئاً مرسلاً أكثر منه متحركاً حركة بطيئة في حيوية إرادية، مجتازةً الحقل متجهةً صوب البركة. وهناك وقفت على الضفة لحظةً. لم ترفعْ رأسها أبداً. وبعدها جعلت تخوض في الماء ببطء.
لبث الطبيب واقفاً بلا حراك بينما كان الهيكل الأسود الصغير يمشي ببطء وتروٍ إلى مركز البركة، ببطء شديد، موغلاً أعمق فأعمق في الماء الساكن، واستمرتْ هي تتقدم إلى الأمام عندما ارتفع الماء إلى مستوى ثدييها. عندئذٍ لم يعدْ يشاهدها في غسق النهار الذي انتهى.
صرخ هو: "أنتِ يامن هناك! هل تَعينَ ما تفعلين؟".
وحث الخطى مسرعاً، مهرولاً فوق الحقول الرطبة، المشبعة بالماء، مندفعاً عبر أسيجة الشجيرات، نازلاً إلى منخفض الظلمة الشتوية الجاسئة. استغرق دقائق معدودات في الوصول إلى البركة. وقف على الضفة، كان نفسَه ثقيلاً. لم يكن في مقدوره أن يرى شيئاً البتة. بدتْ عيناه كما لو أنهما تخترقان الماء الساكن، أجل، ربما يكون ذلك هو الظل الداكن للباسها الأسود تحت سطح الماء.
.... جازف بالدخول البطيء إلى البركة، كان قاعها عميقاً، طين لين، غاص هو، وشلتْ برودة الماء ساقيه، بينما كان يتحرك بتؤدة استطاع أن يتنشق رائحة الطين البارد النتنة التي لوثت الماء كله. كانت الرائحة كريهة، ولم تستسغها رئتاه. مع ذلك، قاوم هو بلا مبالاة، أوغل في البركة أكثر فأكثر. ارتفع الماء البارد فوق مستوى فخذيه، حتى وصل إلى مستوى بطنه. غاص كل الجزء الأسفل من بدنه في العنصر البارد الشنيع. كان القاع شديد الليونة ومشكوكاً فيه، كان فيرجسون يخشى أن يغوص ويصبح فمه تحت سطح الماء. لم يكن قادراً على السباحة، ولهذا كان يشعر بالخوف.
انحنى قليلاً، نشر ذراعيه تحت الماء وجعل يحركهما حركةً دائريةً، محاولاً تلمسها. تمايلت البركة الباردة الساكنة فوق صدره. أوغل من جديد، أعمق قليلاً، وثانيةً، وبينما كانت يداه في الأسفل، شرع يتحسس كل ماهو تحت الماء من حواليه. مسَّ لباسها. لكنه أفلت من أصابعه. وبذل مجهوداً يائساً في الإمساك به.
بينما كان يفعل ذلك فقد إتزانه، وغاص، بصورةٍ مرعبةٍ، وجعل يختنق في الماء الفاسد الترابي، مكافحاً بصورة مجنونة من أجل دقائق قلائل. وفي الختام بعد فترة بدتْ أشبه بالأبدية، استطاع الوقوف على قدميه، انتصب ثانيةً في الهواء وتطلع من حوله. كان يلهث، وأدرك هو أنه مايزال حياً، ثم نظر إلى الماء. كانت مابيل قد نهضت من الماء على مقربةٍ منه. أمسك هو بثوبها، وسحبها إليه، ساعياً إلى أن يجد طريقه إلى اليابسة ثانيةً.
سار ببطء شديد، وبعناية فائقة، مفكراً في التقدم البطيء. نهض أعلى فأعلى، خارجاً من البركة، أمسى الماء الآن في مستوى ساقيه؛ كان سعيداً، في راحة تامة بعد أن تخلص من براثن بركة الماء، رفع الفتاة وتهادى على الضفة، متحرراً من رعب الطين الرمادي الندي.
طرحها على الضفة، كانت قد فقدت وعيها تماماً، والماء يسيل منها . جعل الماء يخرج من فمها، وبذل مجهوداً، كي يعيدها إلى وعيها. لا ينبغي له مواصلة العمل فترة طويلة جداً، قبل أن يشعر أن تنفسها عاد إليها ثانيةً؛ كان تتنفس تنفساً طبيعياً. تابع عمله مدةً أطول. كان بمستطاعه أن يحس أنها تحيا تحت كفيه؛ عادت هي إذاً إلى وعيها. نشف وجهها، لفها بمعطفه، بحلق من حوله في العالم المظلم قليلاً، الرمادي القاتم، ثم رفعها وترنح في مشيته على الضفة مجتازاً الحقول.
بدت الطريق طويلة بصورةٍ لم تخطر له على بال، وبدا حمله ثقيلاً جداً وشعر أنه لن يصل إلى المنزل- لكنه أخيراً استطاع أن يصل إلى فناء الإصطبل، ومن ثم إلى فناء الدار. في المطبخ أرقدها على دثار الموقد، ونادى أحدهم. كان المنزل خالياً. لكن النار ماتزال مشتعلة في الموقد.
ثم جثا ثانيةً كي يعتني بها. كانت تتنفس بانتظام، كانت عيناها مفتوحتين على وسعهما كما لو أنها في أتم وعيها، لكن ثمة شيء ماغائب في نظراتها. كانت تعي كيانها، لكنها لا تعي بما حولها.
قفز درجات السلم، أخذ عدداً من البطانيات من السرير، ووضعها أمام النار كي تدفأ، ثم خلع رداءها المشبع بالماء، والذي يفوح برائحة الطين. جفف بدنها بمنشفة ولفها عاريةً بالبطانيات. ثم دخل حجرة الطعام، باحثاً عن مشروب كحولي. يوجد قليل من الويسكي، أخذ هو رشفةً منه، وسكب في فمها شيئاً منه.
كان تأثير المشروب فورياً، تطلعت في وجهه، كما لو أنها كانت تنظر إليه مدةً من الزمن، إلا أنها الآن فقط أمستْ واعيةً به.
"دكتور فيرجسون؟"... سألت هي.
"ماذا؟"... رد عليها.
كان قد تجرّد من معطفه، وحاول أن يجد لباساً جافاً في الطابق الأعلى. لم يكن يطيق رائحة الماء الطيني الراكد، وكان خائفاً حتى الموت على صحته:
"ماذا فعلتُ؟"، قالت هي:
"غصت في البركة"، أجابها. جعل يرتجف مثل مريض حقيقي، ولم يعدْ قادراً على العناية بها. بقيتْ تركز نظراتها عليه، بدا حزيناً، بينما هو يتطلع إليها عاجزاً. خف الارتجاف، وعادت إليه الحياة ثانية، حياة مظلمة وغير معلومة، إنما قوية.
"هل فقدتُ صوابي؟".. سألتْ هي، بينما كانت عيناها ماتزالان مركزتين عليه.
"ربما، في اللحظة الحاضرة"، أجابها. أحس بالهدوء، لأنه استعاد قواه، زايله التوتر الغريب المضطرب.
"هل أنا معتوهة الآن". سألته.
"أنتِ؟"، فكر ملياً. مرتْ لحظة ثم قال هو بصدق:"لا". أشاح وجهه جانباً.. الآن هو خائف، لأنه كان يشعر بالدوار، وأحس بصورةٍ غامضة بأنها أقوى منه، في هذا الموضوع. واستمرت في النظر إليه بثبات طوال الوقت. "هل يمكنكِ أن تخبريني أين يمكنني أن أجد ثياباً جافة كي أرتديها؟"سالها.
"هل غصتَ في البركة من أجلي؟". سألته.
"لا" أجابها. "خضتُ فيها. لكنني دخلت في الماء أيضاً".
خيم صمت لحظة، تردد هو، كان يتحرق شوقاً للصعود إلى الطابق العلوي كي يحصل على ملابس جافة، إنما كانت في داخله رغبة أخرى. بدتْ وكأنها تريد الإمساك به. يبدو أن إرادته قد ذهبتْ لتنام. وتركته هو، واقفاً هناك خائر القوى أمامها، لكنه شعر بأن داخله دافئ، لم يرتعدْ على الإطلاق، مع أن ثيابه كانت مبللةً بالماء وملتصقة بجسده.
"لماذا فعلتَ ذلك؟". سألته.
"لأنني لم أردكِ أن ترتكبي مثل هذا العمل الأحمق". قال هو.
"لم أكن حمقاء"، قالت، هي ما تزال هي تتطلع إليه راقدةً على الأرض، حيث كان دثار أريكة تحت رأسها. "كان ذلك هو العمل الصحيح الذي ينبغي لي القيام به. كنتُ أعرف ماكنتُ أفعله.".
"سأذهب وأتخلص من هذه الأشياء الرطبة"، قال هو. لكنه مايزال لا يملك القدرة على الابتعاد عنها، مالم ترسله هي. بدا كما لو أنها حياة جسده بيديها. وأنه غير قادر على أن يخلّص نفسه، أو لعله لا يودّ ذلك أصلاً.
فجأةً نهضت هي، ثم أمستْ واعيةً بحالتها. شعرتْ بالبطانيات التي حولها، وتحسست ساقيها. بدا على مدى لحظة كما لو أنها فقدت صوابها.
نظرت من حولها بعينين وحشيتين، كما لو أنها تفتش عن شيء ما. جمّدها الخوف، رأت ثيابها مبعثرةً على الأرض.
"من نضا عني ملابسي؟". سألته، استقرت نظراتها على وجهه.
أجاب هو: "أنا. كي أعيدك إلى الوعي.".
وعلى مدى لحظات قلائل لبثت تنظر إليه بصورة مروِّعة. تباعدت شفتاها.
"هل أنتَ مغرم بي إذاً؟". سألت هي.
كان واقفاً يتطلع إليها مفتوناً. بدتْ روحه كما لو أنها على شفير الذوبان. مشتْ متثاقلة على ركبتيها، بينما كان واقفاً هناك، تشبثت به بيقين غريب حاسم، ورنتْ إليه بعينين براقتين، ذليلتين، تنمان عن التجلي، والانتصار من نفسها. "أنتَ تحبني. أنا أعرف أنكَ تحبني، أنا أعرف.".

وراحت تقبله بعاطفة جياشة، كما لوأنها غير مبالية بأي شيء آخر في الدنيا كله