"طيب، باسم القدر ماذا ستفعلين؟ أخبريني ما الذي تنوين عمله؟"، صاح فريد هنري بحدةٍ لا طائل تحتها.
لكنها لم تفعل شيئاً سوى أنها أدارت رأسها، وتابعتْ عملها. طوتْ قماش المائدة الأبيض، وفرشت غطاء الشنيل().
"إنها لا تعرف سبيلاً إلى الملل والتعب!". تمتم أخوها.
لكنها فرغت من مهمتها بوجهٍ خالٍ تماماً من أي تعبير، الطبيب الشاب لا يني يراقبها بشغف واضح طوال كل تلك المدة. بعدها غادرت هي حجرة الطعام.
شيعها فريدهنري بنظراته، زاماً شفتيه، عيناه الزرقاوان ركزتا النظر في خصومة حادة، بينما كان يكشر معبراً عن سخطه التام.
"يمكنك أن تهشمها إلى شظايا، هذا هو كل مافي مقدورك أن تناله منها". قال: هو بنبرة واطئة.
لاحتْ على ثغر الطبيب ابتسامة طفيفة.
"ماذا ستفعل هي، إذاً؟" سأل هو.
"اضربني إن كنت أعرف!". أجاب الآخر.
خيم صمت. ثم تحرك الطبيب حركةً بطيئةً.
"سأراك الليلة، هل أستطيع ذلك؟"، قال لصديقه.
"نعم- أين سيكون لقاؤنا؟ هل ستذهب إلى مطعم جسديل؟".
"لا أدري. فأنا أعاني من هذا الزكام. سأمر في كل الأحوال على الموون والستارز.".
"لتتحسر ليزي ومي على ليلتهما مرةً واحدةً، مارأيك؟".
"صحيح- لو أنني أحسستُ بمثل ما أحس به الآن.".
"سيان-".
عبر الشابان المجاز، حتى وصلا إلى الباب الخلفي معاً. كان المنزل واسعاً، لكنه الآن خالٍ من الخدم، ومهجور، في الخلف كان ثمة فناء مشيد بآجرات صغيرة، ووراءه مربع كبير مكسو بصغار وحمر الحصى، وله اصطبلات على الجهتين. وثمة حقول مائلة، شديدة الرطوبة، داكنة كالشتاء تمتد بعيداً في الجوانب المفتوحة.
لكن الاصطبلات خالية الآن. جوزيف بيرفين، رب الأسرة كان رجلاً عديم الثقافة، وأمسى تاجر خيول كبيراً بعض الشيء. كانت الاصصبلات مليئة بالجياد. الخيول تذهب وتأتي يرافق رواحها ومجيئها اضطراب عظيم، ناهيك عن تجار وسائسي الخيل. وكان المطبخ يعج بالخدم. لكن في الفترة الأخيرة تدهورت الأمور تدهوراً سريعاً تزوج الرجل العجوز ثانيةً، كي يجدد نصيبه. الآن أمسى هو في عداد الأموات، وصارت عظامه رميماً، ولم يبقَ شيء غير الدين والتهديدات.
طوال بضعة شهور، ظلت مابيل تعمل وحيدة بلا خدم في المنزل الكبير، تتدبر أمور البيت مع الفقر المدقع من أجل أشقائها غير الفعالين. دبرتْ الشؤون البيتية على مدى عشرة أعوام. إنما في السابق. استطاعت هي القيام بواجباتها بوسائل لا حصر لها. ومن ثم، ومهما كانت الأشياء قاسية ووحشية، جعلها الإحساس بالمال فخورةً وواثقةً من نفسها. قد يكون الرجال بذيئي الألفاظ، وقد تكون خادمات المطبخ سيئات السمعة، وقد يكون لأشقائها أطفال غير شرعيين. لكن طالما ثمة مال، فهي تشعر بالاستقرار، وبأنها مزهوة بنفسها بصورة موجعة، وبأنها متحفظة.
لم يأتِ إلى البيت أي من الأصدقاء، كي ينقذ الخيل والرجال الذين يعانون من شظف العيش. مابيل ليس لها صديقات من جنسها، وخاصة بعد أن تزوجت شقيقتها وذهبتْ إلى دار بعلها. لكنها لم تبالِ بذلك. هي تذهب إلى الكنيسة بصورة منتظمة، كانت تصاحب والدها. وكانت تحيا على ذكرى أمها التي فارقت الحياة عندما كانت هي في ربيعها الرابع عشر. كانت مابيل تحب أمها المرحومة حباً جماً. كانت تحب أباها أيضاً، بطريقة مختلفة، تعتمد عليه، وتشعر بالحماية في كنفه، إلى أن بلغ هو سن الرابعة والأربعين حينذاك تزوج أبوها ثانيةً، وبعدها اتخذت هي موقفاً صلباً ضده. الآن رحل هو إلى العالم الآخر وتركهم جميعاً يائسين وغارقين في الدين.
عانتْ هي معاناة كبيرة في خلال فترة الفقر. مامن شيء، على أية حال، كان بمقدوره أن يهز الكبرياء الحيواني، الفضولي، العنيد الذي يسيطر على كيان كل فرد من أفراد الأسرة. الآن، بالنسبة لمابيل، النهاية أتت لا محالة. مع ذلك هي لا تبحث عن حلٍ لمعضلتها. كانت تتبع الطريقة ذاتها في الحياة. كانت تحمل دوماً مفاتيح وضعها الخاص، وتحتمل مصاعبها يوماً بعد يوم بغباء وإصرار. لماذا يتعين عليها أن تفكر؟ لماذا ينبغي لها أن تجيب عن أسئلة أي فرد من الناس؟ أما يكفي أن النهاية قد حلتْ، ومامن مخرج منها. لم يعدْ يعوزها أن تطوف خلسةً الشارع الرئيس للمدينة الصغيرة، متحاشيةً عيون الآخرين، كما لم تعدْ هي تحتاج إلى أن تحط من قدر نفسها، فتدخل الحوانيت وتشتري أرخص الأطعمة، هي ذي خاتمة المطاف. لم تعدْ تفكر هي بأيٍّ من البشر، حتى بنفسها. كانت عديمة الذكاء وعنيدة، تبدو كما لو أنها في حالةٍ من حالات الاهتياج تدنو أكثر فأكثر من كمالها الذاتي، مجدها، مقتربةً من أمها المرحومة، التي كانت هي نفسها جليلة الشأن.
بعد الظهر، أخذت حقيبتها الصغيرة، مع مجزة وإسفنجة وفرشاة تنظيف، وخرجتْ. كان يوماً شتائياً رمادياً، أما الحقول فكانت كئيبة، داكنة خضراء، وكان الجو مسوّداً بفعل دخان مشاغل سبك المعادن التي لا تبعد كثيراً من هنا. مضت مسرعةً، مسرعةً عبر طريق معبدة، غير مبالية بأي إنسان، مجتازةً المدينة متجهةً صوب فناء الكنيسة.
هناك تشعر هي دوماً بالطمأنينة، طالما أنه مامن أحد يمكنه أن يشاهدها، مع أنها في الواقع وبكل معنى الكلمة معرّضة لنظرات كل امرئ يمر من هناك تحت جدار فناء الكنيسة. مع ذلك، ذات مرة تحت ظل المدفن الكبير المليء بالأطياف، بين القبور، شعرتْ مابيل بأن حصناً منيعاً، يعزلها عن العالم، وبأنها محتجزة بين جدار فناء الكنيسة كما لو أنها في بلد آخر.
بحذرٍ جزتْ الحشائش التي طوقتْ اللحد، ونسقت الأقحوانات الصغيرة، البيضاء الضاربة إلى اللون الرمادي في الصليب، وحينما فرغت من ذلك، تناولت جرةً فارغةً من لحد مجاور، جلبتْ ماءً وبعناية تامة ودقة متناهية مسحتْ بالإسفنجة شاهدة القبر الرخامية وحجر الإفريز.
منحها ذلك العمل القناعة المخلصة. شعرتْ بأنها في تماسٍ عميقٍ مع عالم أمها، بذلت مجهوداً عظيماً، مضتْ عبر المتنزه في حالةٍ أقرب ماتكون للسعادة الخالصة، كما لو أنها في إنجازها لهذا العمل تصبح في تلاحم حميم مع أمها. ذلك أن الحياة التي تسلكها في العالم أقل واقعيةً بكثير من عالم الموت الذي ورثته من أمها.
يقوم منزل الطبيب على مقربةٍ من الكنيسة. فيرجسون، المساعد المستخدم حصراً، كان يعمل كالعبد المسترق في الريف، بينما هو يسرع الآن لمعاينة مرضاه الخارجيين في العيادة الجراحية. تطلع عبر المدفن بنظرةٍ خاطفةٍ، وشاهد الفتاة بينما هي تنجز مهمتها عند القبر، بدتْ منكبةً على عملها ومنعزلةٍ، كما لو أنها تبحلق في عالمٍ آخر. عنصر غامض مسَّ وتراً بداخله، وبينما كان يسير تباطأتْ خطواته، وجعل يراقبها كالمسحور.
رفعتْ مابيل عينيها، حينما شعرت بنظراته، التقتْ نظراتهما. وكل منهما تطلع في وجه الآخر ثانيةً وفي وقت واحد، كل منهما شعر أنه اكتشف من قبل الآخر. رفع الطبيب قبعته وواصل مسيره. بقيتْ ذكرى وجهها راسخةً في وعيه. كما لو أنها رؤيا، عندما رفعت وجهها من شاهدة القبر في فناء الكنيسة، وتطلعتْ إليه بعينين كبيرتين، بطيئتين، ورائعتين، وجهها نفسه كان رائعاً، بدا أن وجهها قد سحره تماماً. كانت عيناها ذات قوة هائلة استحوذت على كيانه كله، كما لو أنه تعاطى عقاراً قوياً وفعالاً. قبل الآن كان فيرجسون يشعر بالضعف والإعياء. الآن عادتْ إليه الحياة شعر هو أنه قد تحرر من كيانه اليومي المتآكل.
أكمل واجباته في العيادة الخارجية بأسرع مايمكن، ملأ بسرعة قناني القوم المنتظرين بالأدوية الرخيصة، ومن ثم، وبسرعة معهودة، بدأ رحلته ثانيةً ليزور حالات عديدة خلال قسم آخر من جولته على المرضى، قبل حلول فترة تناول الشاي. كان يفضل دوماً السير على قدميه، إن كان قادراً على ذلك، وخاصةً عندما يحس أنه ليس على مايرام، إذ يخيل له أن الحركة تعيد إليه نشاطه وحيويته.
كان العصر قد حل، كان عصراً رمادياً، باهتاً، وشتائياً ذا برودة بطيئة، ندية، وثقيلة تتغلغل إلى أجساد البشر وتعطل طاقاتهم كلها. لكن لماذا يلزمه أن يفكر أو يلاحظ؟. تسلق التل على عجل وعرّج على الحقول الداكنة الخضرة، سالكاً الطريق الداكنة المكسوة بنفايات المعادن.بعيداً، وعبر منخفض قليل العمق في الريف، كانت المدينة ملتمة على نفسها مثل رماد خامد. ثمة برج، وقمة مستدقة، وكومة من المنازل الواطئة، الفجة، المندرسة. وعلى الحافة الأقرب من المدينة، مائلةً نحو المنخفض، كانت تقع أولدميدو "المرج القديم"، حيث منزل عائلة بيرفين. كان في ميسوره أن يرى الاصطبلات والمباني الإضافية بصورة واضحة، بينما هي تستلقي صوبه على المنحدر. حسن، لن يختلف إلى هناك كثيراً في المستقبل! ملاذ آخر سيخسره هو، مكان آخر ضاع: الرفقة الوحيدة التي يهتم بها في المدينة الصغيرة، الغريبة والقبيحة ضاعت منه الآن. لاشيء غير العمل، والكدح، والإسراع المستمر من مسكن إلى مسكن بين عمال منجم الفحم وعمال الحديد، هذه الحياة الشاقة أرهقته تماماً، لكنه في الوقت ذاته كان يشعر بتوق شديد إليها.
كان وجوده في مساكن العمال حافزاً له، وكان يتحرك إذا صح التعبير في المتن الأعمق من واقعهم الخشن. كانت أعصابه مستفزة ومشبعة. في وسعه أن يتغلغل عميقاً في الحياة الخاصة للرجال والنساء، هؤلاء جميعاً كانوا عاطفيين جداً، خشني الطباع، وعاجزين عن التعبير عن آرائهم. كان متذمراً، قال هو مرةً أنه كان يمقت الحجر الجهنمي. لكن والحق... يقال.. أثاره ذلك، كان الاتصال والتماس مع الناس الأفظاظ، شديدي الإحساس، محفزاً قوياً يمس أعصابه مساً مباشراً.