التعليم مدى الحياة في تايوان
درس جديد من تايوان: التعليم مدى الحياة
بقلم : د . عيدالله المدني مجلة المعرفة السعودية
شرعت تايوان الصغيرة التي لا يزيد مساحتها على 360 ألف كيلومتر مربع ولا
يزيد سكانها على 22 مليون نسمة منذ عدة سنوات في ما يمكن وصفه بمشروع رائد
لإشاعة التعليم وتوفيره للجميع من دون اشتراطات معينة أو مسبقة تتعلق
بالسن أو بالمستويين الأكاديمي والوظيفي، وذلك ليس فقط من منطلق أن
التعليم حق أساسي مقدس للجميع ووسيلة من وسائل الاستنارة والإبداع وتنشيط
الذهن والتواصل الإنساني مثلما قررت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة
والعلوم (اليونيسكو)، وإنما أيضًا من منطلق أن إزالة العقبات التقليدية
وغير التقليدية من أمام الساعين إلى رفع مستوياتهم الأكاديمية أو الباحثين
عن مجالات عمل جديدة أو الراغبين في تحديث معلوماتهم في مجالات تخصصهم وهو
أمر يعود على البلاد بمنافع عظيمة وبما يجعل تايوان في مقدمة الأمم
الناهضة في هذا العصر المتسم بثورة الاتصالات وصناعة المعرفة كمحددين
رئيسيين للنجاح والتفوق.

فكرة يابانية
وبطبيعة
الحال، لا يمكن الزعم بأن مثل هذا المشروع هو من بنات أفكار التايوانيين،
بمعنى أنه لم يسبقهم فيها أحد، وإنما ما يمكن زعمه هو أن التايوانيين
امتلكوا جرأة التقليد دون حساسية، فأخذوا الفكرة من اليابانيين مثلما
دأبوا منذ عدة عقود على تقليد معظم المنتجات والابتكارات اليابانية
والإضافة عليها ثم تصديرها إلى الأسواق العالمية تحت "ستيكر" ذهبي صغير
يحمل عبارة "ميد إن تايوان
MadeinTaiwan".

عوامل مجتمعية وبيروقراطية
ووفقًا
لصناع القرار في تايبيه، فإن ما حدا بهم إلى تدشين هذا المشروع الذي
أطلقوا عليه اسم "التعليم مدى الحياة" هو أن بعض العوامل المجتمعية أو
البيروقراطية قد تحول أحيانًا دون التحاق الفرد بالصفوف الدراسية، فتمنعه
بالتالي من تحقيق طموحات مشروعة يخفيها بداخله.

برامج دراسية تلبي احتياجات الجميع
وهكذا
- والحديث لا يزال للمسؤولين التايوانيين - فإن ما أطلقوه يلبي رغبات
قطاعات كبيرة من الرجال والنساء والشباب والعواجيز والمتعلمين وغير
المتعلمين والمتزوجين والعزاب، والعاطلين وغير العاطلين لأنه لا يلزمهم
بأوقات دراسة معينة أو صفوف دراسية محددة، ولا يجبرهم على تعلم مواد
بعينها، تاركًا لهم مطلق الحرية في اختيار المكان والزمان والمواد التي قد
تتفاوت ما بين تعلم اللغات الحية أو وسائل المحافظة على البيئة أو رياضة
اليوغا.

مؤسسات تعليمية لا تسعى إلى الربحية
وللوفاء
باحتياجات هذا النوع من المشاريع التعليمية، كان لا بد من إنشاء ما سمي
بكليات المجتمع التي صار عددها اليوم يتجاوز 87 فرعًا منتشرًا في كل إقليم
في البلاد ويتولى إدارتها مؤسسات لا تسعى إلى الربحية. علمًا بأن أولها
افتتح في عام 1998 وبعدد من الطلاب والطالبات لا يتجاوز الثلاثة آلاف. هذا
العدد الذي ارتفع في العام الماضي إلى 210 آلاف طالب وطالبة، على الرغم من
أن الكليات الجامعية التي يدرسون بها لا تمنحهم أية شهادات. وهذا أمر يجدر
بنا التوقف أمامه لأنه في حد ذاته دليل على وجود نهم شديد لدى التايوانيين
للمعرفة من أجل المعرفة - وليس من أجل الشهادة للتفاخر والتباهي كما يحصل
عندنا - مثلهم في ذلك مثل بقية شعوب الشرق الأقصى التي تحدث معلوماتها في
مجالات تخصصاتها من فترة إلى أخرى، كيلا نقول إنها تعود وتجلس في مدرجات
الكليات التي تخرجت فيها من خلال دورات مدفوعة الثمن، وذلك من أجل استيعاب
كل جديد قد يكون اخترع أو اكتشف بعد تخرجها. ولسنا هنا بحاجة لمقارنة هذا
الوضع بوضع الخريج العربي بصفة عامة والذي يعتقد أن نيله شهادة التخرج هو
منتهى المطاف في مجال تخصصه، فلا يفتح بعده كتابًا جديدًا أو يتواصل مع
كليته أو يجدد معلوماته ويضيف عليها من خلال البحث في الإنترنت (على
الأقل) إلا فيما ندر.

الجامعة الوطنية المفتوحة كمثال
وتعتبر
الجامعة الوطنية المفتوحة في مدينة "لوجهو" الواقعة ضمن مقاطعة تايبيه
نموذجًا لنجاح مشروع "التعلم مدى الحياة" فهو يقدم برامج تعليمية مرنة من
ناحيتي المكان والزمان، كما أنها توفر تلقي الكورسات المقررة من خلال
الراديو والتلفزيون والإنترنت. وربما بسبب هذه الميزات مجتمعة وصل عدد
طلبتها في العام الدراسي 2007 – 2008 إلى 16300 طالب وطالبة.

جامعة كاوسيونغ كمثال آخر
الجامعة
الأخرى التي يجب التنويه بها في هذا السياق هي جامعة "كاوسيونغ" المفتوحة
في جنوب تايوان التي بلغ عدد طلبتها في العام الدراسي المشار إليه سابقًا
نحو 15500 طالب وطالبة، لكنها رغم هذا العدد الهائل من الملتحقين بها،
ورغم تفاوت أعمارهم ما بين 25 و64 عامًا، وبالتالي اختلاف مطالبهم
وظروفهم، استطاعت أن توفر للجميع فرصًا تعليمية ممتازة وفق أرقى النظم
وأحدثها بشهادة اليابانيين.

الأبناء والآباء والأمهات في صفوف واحدة
ومع
تبني هذه الجامعات المفتوحة لوسائل المعرفة التكنولوجية الحديثة وتوفير
وسائطها التي تعتبر تايوان إحدى الدول الرائدة في صناعتها، فإنها بدأت في
اجتذاب الشباب وصغار السن إليها بحيث قد يجد الأب أو الأم نفسيهما جالسين
إلى جوار ابنهما أو ابنتهما في الصف الدراسي ذاته. هذا على الرغم من أن
الهدف الأساسي من تأسيسها كان موجهًا نحو البالغين ممن دخلوا مجال العمل
دون امتلاك الخبرة أو الدراسة اللازمتين، ثم أرادوا اكتساب ما يستعينون به
على تطوير أعمالهم، أو كان موجهًا نحو أولئك الطامحين إلى امتلاك ثقافة
تعينهم على اجتياز امتحانات القبول في المؤسسات الأكاديمية العليا. وليس
أدل على صحة هذا الزعم من أن أكثر من 20 بالمئة من طلبة الجامعة الوطنية
المفتوحة التي أشرنا إليها في مقدمة المقال يصفون أنفسهم برجال الأعمال من
ذوي الخبرة المحتاجة إلى الصقل عبر التعليم الجامعي، أو بالمواطنين الذين
اضطروا إلى الانقطاع عن الدراسة لسبب ما أثناء مشوار حياتهم.

عدد غير متوقع من الراغبين في الالتحاق بهذا النوع من التعليم
وبطبيعة
الحال، وضع هذا التطور على كاهل الجامعات المفتوحة أعباء جديدة في صورة
وضع برامج تلبي الاحتياجات التي لم تكن منظورة أو متوقعة. فعلى سبيل
المثال اللاحصري فوجئت السلطات التعليمية التايوانية في العام الدراسي
2007 – 2008 بأن عدد المسجلين في صفوف التعليم مدى الحياة قد تجاوز 28 ألف
طالب وطالبة، وأن نصف هذا العدد تقريبًا هم من زوجات المواطنين
التايوانيين اللواتي قدمن من البر الصيني أو من دول جنوب شرق آسيا ويرغبن
في تعلم المهارات اللغوية أو تعلم المزيد عن تاريخ تايوان وثقافتها كي
يربين أطفالهن تربية وطنية جيدة. وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن عدد هؤلاء
في ازدياد، وينتظر أن يصل إلى حوالي نصف مليون ما بين أزواج لمواطنات أو
زوجات لمواطنين تايوانيين في السنوات القليلة القادمة، فإن وزارة التعليم
في تايوان مطالبة بالمزيد من الإنفاق والجهد.

الحاجة المستمرة لتقييم برامج التعليم مدى الحياة
ويقول
«تشو نان شيان» مدير دائرة علم الاجتماع في وزارة التعليم التايوانية إن
من أهم المشاكل التي تواجه بلاده في تطبيق برنامج «التعليم مدى الحياة» هو
الحاجة المستمرة لتقييمه بسبب تغير الظروف في بلد يشهد ارتفاعًا في معدلات
الأعمار (عدد الذين تزيد أعمارهم عن 65 سنة يزيدون بمعدل 400 شخص كل عام
كنتيجة للرعاية الصحية المتقدمة والضمان الصحي).

عبارة مطاطية
ويضيف
المسؤول التايواني قائلًا: أن عبارة تعليم الكبار أو البالغين أو عبارة
التعليم مدى الحياة صارت في السنوات الأخيرة تستخدم للإشارة إلى أشياء
مختلفة بحيث صارت مطاطية، لكنها تشترك في قاعدتين: الأولى هي قانون
التربية الاجتماعية الذي وضع في عام 1953 أي بعد أربعة أعوام من سقوط نظام
الكومينتانغ وهروب زعيمه الماريشال تشيانغ كاي تشيك إلى جزيرة فورموزا
لتأسيس دولة تايوان بدعم من الأمريكيين وحلفائهم في الغرب والشرق الأقصى،
والثانية هي برنامج الخدمات التعليمية طويلة الأجل الذي دشن في عام 1996
واستهدف قطاعات واسعة من المواطنين تحت يافطة إصلاح التعليم وتطويره
وإتاحته للجميع في المنزل ومواقع العمل وأثناء فترات الراحة والعطلات، مع
إعطاء الأولوية لسكان البلاد الأصليين أو لمن هم في قاع المجتمع من ذوي
الدخول المحدودة أو أصحاب العاهات المستديمة.

سياسات الكومينتانغ التربوية في البر الصيني وتايوان
والمعروف أن سياسات الكومينتانغ التربوية
بدأت في البر الصيني في مطلع القرن العشرين وشملت محو الأمية والتدريب
المهني ونشر المعرفة في صفوف الجماهير، وذلك من خلال المؤسسات الرسمية
وموظفي الدولة وقادة الرأي والإعلام والأكاديميين. وحينما وصل الكومينتانغ
إلى فورموزا نقل معه هذه السياسات لتشهد الفترة ما بين عقدي الخمسينيات
والسبعينيات من القرن الماضي ثورة تربوية حقيقية عززتها مشاعر الانتماء
القومي وضرورة التميز عن البر الصيني هوية ونظامًا ونهضة، وكان من ثمارها
أن تقلصت نسبة الأمية في صفوف المواطنين إلى 4 بالمئة لتصبح تايوان إحدى
الدول الآسيوية الرائدة في مجال مكافحة الأمية.

البصمات اليابانية
لكن
هذه الثورة استعارت الكثير من صفات الثورة التربوية في اليابان التي كانت
قد استعمرت تايوان ما بين 1895 و1945 وتركت بصمات واضحة على سياساتها
التعليمية وأساليب حياتها الثقافية من تلك التي لا تزال ماثلة إلى اليوم
ومنعكسة في النظريات والبرامج التعليمية على المستويين المحلي والقومي
وتضمين التربية الاجتماعية أشياء مثل المراكز الثقافية والمكتبات العامة
والمتاحف الرسمية وقاعات الفنون والعلوم الطبيعية ومراكز الجمباز والباليه
ومؤسسات الترفيه عن الأطفال والمراهقين وإرشادهم.